محمد على والقاهرة (1805-1848):
وصل محمد على الى القاهرة خلال الأوقات الأخيرة للحملة الفرنسية باعتباره ضابطا فى فرقة ألبانية تابعة للجيش العثمانى,وقد نجح محمد على وهو جندى مؤقت فى الاستيلاء على السلطة فى مصر وفي الحصول على موافقة الباب العالى على تعيينه باشا (1805). وتمكن فيما بعد وخلال حكمه طويل الأمد من التخلص من الأستقراطية المملوكية القديمة(1811). ومن غزو الحجاز وفلسطين وسوريا(1831). وأخيرا اعترف السلطان والدول الكبرى بباشاوية محمد على وبولايته التوريثية على مصر والسودان (1841).
وانخرطت مصر فى ظل حكم محمد على فى طريق التحديت, واندمجت فى السياسة والاقتصاد العالميين. فقد انقلبت أوضاع البنيان الاجتماعي في البلاد,اذا تم اصلاح نظامها السياسى والاداري, وتكوين جيش حديث واقتصاد جديد. ومهما كان تقييمنا لمدى نجاح محاولات تصنيع البلاد ولأسباب فشل هذه المحاولات (هل هو ضعف داخلى أم ضغوط خارجية انتهت بتوقيع معاهدة 1841), فانه يجب الاعتراف بأن مصر جديدة قد ولدت. وأدى توسع مصر التجاري وتوجهها نحو الغرب الى نهضة مدينة الاسكندرية بصورة خارقة . ففي خلال نصف قرن تحول ميناء القاهرة الأمامى الذي كان هزيلا وغافلا (10آلاف نسمة) الى حاضرة نامية على البحر المتوسط:ففى عام 1848 أصبح عدد سكان الاسكندرية 105 ألف نسمة ( من بينهم 5 آلاف أجنبي), كما يصل الى 232 ألف نسمة عام 1882 (من بينهم 49ألف أجنبي). ويبدو أن القاهرة قد أفلتت من هذا الانقلاب ومن الاعصار الذي اجتاح مصر.انها لم تتغير خلال الفترة بين 1805و 1849 الا قليلا للغاية: ولا يوجد ما يشير الى حدوث أي تطور بالمدينة يمكن أن يعكس التغيرات الكبيرة التى شهدتها مصر خلال تلك الفترة وتعتبر الخريطة التي وضعها جران بك عام 1874 بالغة الدلالة بشأن هذه النقطة اذ تكشف عن حدوث ركود المدينة. ونجد نفس الركود أيضا بالنسبة لعدد السكان الذين قل عددهم في الوقت احتل فيه تعداد السكان مكانة رئيسية. ويشير تعداد عام 1846(الغير دقيق الى حد كبير ) الى ان عدد سكان القاهرة بلغ 256 ألف نسمة وهو رقم يقل قليلا عن الرقم الذي يقترحه << وصف مصر>> عن عام 1798.
و قد تسبب ركود القاهرة هذا- كما تسبب عدم اهتمام محمد علي الواضح بالمدينة- فى حدوث مشكلة.فقد شهدت مصر طوال حكم محمد علي باشا استقرارا كبيرا في عدد السكان.اذ ارتفع عدد السكان من 4 مليون (رقم يعتبره المتخصصون بانه أقرب الى الصواب من تقدير << وصف مصر >> بأنه 2.6 مليون نسمة) في عام 1800 الى 4.7 مليون نسمة فقط في عام 1849. ويعتبر هذا المعدل منخفضا للغاية, وقريب الشبه بالركود ويمكن تفسير أسبابه بحدوث كوارث سكانية قبل أي شىء آخر:فقد أصيب سكان مصر بمرض الطاعون (الوياء الذى تسبب عام 1835 في وفاة 500 ألف شخص).و بالكوليرا (180ألف متوفى عام 1831). ومن جهة اخرى دفعت مصر ثمن سياسة محمد على الطموحة. اذ أنه بالاضافة الى التجنيد والى الحملات العسكرية الباهظة التكاليف والتى تطلبتها سياسة خارجية نشيطة؛ أصيب السكان أيضا بخسائر جسيمة نتيجة لأعمال السخرة والعمل الاجباري الذي تم اللجوء اليه على نطاق واسع لتشييد ولصيانة مشروعات قنوات الري والصرف الكبيرة : كان معدل الوفيات مرتفعا للغاية , سواء في مواقع العمل او بين الجماهير العاملة (وصل عددهم الى 400ألف فلاح) الذين يتم استدعاءؤهم في كل عام للمشاركة في الأشغال الجماعية.
في الواقع ان امكانيات النمو السكاني قد تركزت في مدينة الاسكندرية التي حلت محل القاهرة كمركز للتجارة الدولية في مصر.ولم يبق أمام العاصمة المصرية سوى الخضوع لآثار تسارع نمو المدينةالتي كانت ميناءها الأمامى لكنها تحولت الى مدينة منافسة لها.ولم يتخذ محمد علي أية سياسة يمكن ان تخفف على القاهرة من نتائج آثار التغيرات الاقتصادية التى استفادت منها الاسكندرية .
لقد اراد ان يصنع من مصر قوة عظمى فقام بتشجيع مدينة تتجه نحو البحر المتوسط الذي هو المسرح الرئيسي لاهتماماته الديبلوماسيه .وكان ميناء الاسكندرية يتناسب مع تسويق منتجات الاقتصاد الجديد والتجارة الجديدة ثقيلة الوزن كالقطن مثلا.وأخيرا كانت الاسكندرية تتوافق مع سياسة الباشا بسبب تنوع سكانها الجدد وتباين انشطتهم في حين كان محمد علي يتخذ سياسة مناقضة تجاه القاهرة التي يرتاب فيها ويحذر منها لانه يحاول القضاء على مجتمعها المرتبط بالماضي والذي يمكن ان يفرز الفتن والقلاقل ويمكن لهذا الامر ان يفسر لنا لماذا كان الباشا يفضل تشييد مقار اقامته خارج مدينة القاهرة وبعيدا عنها.
لم يشهد تنظيم القاهرة سوى تغيرات طفيفة .لقد انتقلت سلطات الشرطة الى ايدي الضبطية(انشئت عام 1834-1825م)التي تم تكليفها بالتحقيق في الجرائم الصغيرة والى مراكز الشرطة التي اقيمت في جميع احياء المدينة.وتم انشاء ادارة المباني ومكتب للهندسة المدنية في عام1829م و1837م وتقلصت وظائف الوالي التي اقتصرت على الوظائف الشرفية كما تقلص دور القاضي في المجال الحضري.وكان التجديد الاكبر يتعلق بتقسيم المدينة الى ثمانية اقسام وهو نظام مأخوذ عن التقسيم الاداري الفرنسي.
كما ظلت طريقة معالة المشاكل اليومية الحضريه تقليدية ومتسمه بالتهاون والاهمال.
ويذكر الرحالة( سان جون)في عام 1832م في مجال صيانة الشوارع من ناحية النظافة والمرور ما يلي:
(كانت الشوارع فيما مضى قذرة ومقززة لكنها الان في الاغلب نظيفة بطريقة ملفته للنظر اذ يتم كنسها ثلاث مرات يوميا ويتم تجميع القمامة وتنقل الى خارج المدينة).
ويذكر المستشرق (ادوارد لين)في عام1835م ان (لقد ازال محمد علي المصاطب من الشوارع المزدحمة ولم يسمح بها الا في الاماكن الاكثر اتساعا وبشرط الا يزيد عرضها عن شبرين وفي نفس الوقت امر التجار بدهان حوانيتهم وبازالة الاسقف المصنوعة من الحصير التي تظلل بعض الاسواق ولم يسمح احلالها الا بالاسقف الخشبية وبعدها بقليل امر الباشا السكان بدهان واجهات منازل القاهرةباللون الابيض).
لقد كانت هذه الاجراءات ماهرة لكنها تشير الى ان ادارة مشاكل المدينة اليومية لا تزال غير مستقرة الاحوال ويجب الانتظار حتى عام 1845م حتى يتم وضع خطة تنظيم تستهدف توسيع الشوارع او فتحها .وابدى مجلس تنظيم القاهرة نشاط كبير لكنه لم يعمر طويلا.
وعلى هذا تغير مظهر المدينة قليلا خلال نصف القرن هذا المشحون بالاحداث والمستحدثات.لقد تم بذل الكثير من الجهود وتحقيق العديد من الانجازات بعد عام 1830م والتى يعزونها عادة الى نفوذ ابراهيم باشا ابن محمد علي المتوفي عام 1848م لقد مهدت بعض هذه الاعمال الطريق امام التطورات المقبلة.اذ تم تسوية وتمهيد تلال الانقاض المحيطة بالقاهرة من ناحية طرفيها الشمالي والغربي :حيث قام ابراهيم باشا بعمليات اعداد وزراعة 400فدان في المناطق الواقعه بين حد القاهرة والنيل مع احاطتها بخندق يحميها من فيضانات النهر مما ساهم في تسهيل عمليات التعميرالتى قام بها اسماعيل باشا فيما بعد وينطبق نفس الشيء على اعمال ردم المنخفضات التى كانت تغرق اثناء ارتفاع النيل مثل بركة الازبكية حيث تم تجفيفها عن طريق قناة دائرية نحو عام 1837م ثم ردمها سمح بانشاء حديقة على الطريقة الاوربيه تطل عليها قصور وفنادق مستحدثة رائعه مثل فندق شبرد والشرق.
وقد قاموا بغلق العديد من المدافن الحضرية وذلك لاسباب صحية ومن اجل تسهيل العمليات المتعلقة بشبكة الطرق التى كانوا يتأهبون لها.
وكان عدم انتظام الشوارع يمثل احدى العقبات الرئيسية امام تحديث المدينة لقد ظهرت حينذاك اولى العربات المجرورة بالخيول باعتبارها امر غريب ومثير للفضول وخاص بالاسرة المالكة وحدها ذلك مثل العربة التي اهدتها الحكومة الفرنسية للباشا في عام 1824م والتي كانت مصحوبة بخطاب من وزير الخارجية الفرنسي يعرب فيها عن اعتزازه باقامته بالقاهرة قبل 16عام.ولكن هذه العربات التي تضاعفت فيما بعد(وجد 30عربة في عام1840م)لم تكن تستطيع السير الا خارج المدينة وبخاصة في الطريق المؤدى الى شبرا .وقد كتب الرحالة جوزيف ديستورميل في عام 1833م عن هذه العربات قائلا (كان جميع المارة يقفون للتعبير عن اعجابهم الصامت بعربة الباشا التى تبدو لهم اكثر عجبا من الاهرامات).
وكانت السلطات تعتقد بضرورة فتح المدينة امام نوعية جديدة من المرور اصبحت ضرورية بسبب التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية.وتم الشروع في شق طريقين في اطار التنظيم الجديد.قد يكون الطريق الاوا هو نفس المشروع الفرنسي السابق الذي يقود من الموسكي الى منطقة الازهر ويقطع المدينة القديمة من الغرب الى الشرق ويفتح المنطقة التجارية امام التجار الاوروبيين وسمي هذا الشارع فيما بعد بشارع (السكة الجديدة)وبلغ عرضه ثمانية امتار وهى ابعاد كبيرة للغاية بالنسبة لشوارع ذلك العصر.وبدأوا منذ عام 1845 في شراء بعض قطع الاراضي وفي اعمال الهدم اللازمة.اذ تم افتتاح جزء صغير من الشارع عام 1849م وكان المشروع الثاني هو الاكثر طموحا فهو الشارع الذي يقطع المدينة بانحراف ابتداء من الازبكية وحتى القلعه.
لقد بدأ تنفيذ هذا الشروع عام 1845م بعد اخلاء المدافن في بدايته وشراء بعض المنازل من اجل هدمها ولكنه لم يكتمل الا في عهد اسماعيل.
وشيئا فشيئ اتخذت المدينة القديمة مظهرا جديدا بعد تزويدها بعمارات مشيدة بانماط اجنية مع الاحتفاظ بالتقاليد المحلية.وقد ادى منع تشييد المشربيات (لاسباب امنية وغرض التحديث ايضا)واستخدام النوافذ الزجاجية الى فرض اسلوب جديد نصف اوروبي ونصف تركي وتنظيم للمساحات الداخلية اصبح شائعا خلال النصف الثاني من القرن وفي عام 1847م بدأ ترقيم الشوارع بالقاهرة تحت اشراف اربعه من ضباط المدفعية.
ويقال اننا مدينين لمحمد علي بتجديد القلعه لانه قام في الواقع بهدم جزء هام من الصروح المشيدة خلال قرون سابقة حيث كانت مباني شديدة القبح والتفاهه.
لا ريب ان الاسباب الامنية هى التى دفعت محمد علي في عام 1807م الى مغادرة مقره في الازبكية لكى يذهب للاقامه في القلعه.وفي عام 1812م قام بهدم جميع منشآت المماليك الكائنة في القلعه وبتسوية الارض واعادة رسم اسوارها وذلك بعد مذبحة المماليك الشهيرة.
ويقول (كليرجية)
لقد شيد قصرا ومقار واسعه للجيش وشرفة كبيرة ومصنع اسلحة ومصنع بارود ودار لسك النقود).لقد استعادت القلعه من جديد نشاطها القديم وكان يؤمها جمع غفير من العسكريين والموظفين.
وكانت منشآت القلعه تتكون من مجموعتين تتسمان بروعة خاصة وهما قصر الجوهرة ودور الحريم ويقول الرحاله(ادموند بوتى)في ذلك بانه على الاقل يمكننا رؤية منظر جميل الابداع ابتداء من قصر الجوهرة(يمكن من هناك الاستمتاع بمنظر يمتد فوق الدينة ويصل الى ما وراء النيل والاهرامات ومن ناحية الجامع نرى عبر حديقة مزروعة المآذن الممشوقة التى تدعو الروح الى التحليق في السماء).
ونجد ان حلية القلعة الرئيسية هى الجامع الكبير الذي عهد محمد علي باشا منذ عام 1820م الى المهندس الفرنسي (باسكال كوست)دراسة مشروعه.
وكتب الرحالة(ارثر رونية)عنه(انه الجامع يعطى من على بعد انطباع عظيم بسبب كتلته وقبابه الواسعة ومآذنه الممشوقة والشاهقة مثل اشرعة السفن وحين تقترب منه يتغير هذا التأثير اذ تشعر بالحزن امام هذه التركيبات الثقيلة للغاية ةعديمة القيمة بالمقارنة بمبتكرات المعمارى العربي القديم الفاتنة).
وكان محمد علي يفضل المساكن القروية فقد شيد لنفسه قصور في الريف.كانت هذه القصور ذات فائدة حيث ساهمت في تحقيق تنمية عمرانية لاحقة وفي تكوين الضواحي.حدث هذا بالنسبة للقصر والحديقة المشيدين في شبرا:لقد بدات أعمال تشييد هذا القصر على ضفة النيل عام 1809م وفي العام التالي انتقل الباشا الية وجعله مقر اقامته الرئيسي ومن اجل الوصول الى القصر شيد طريقا جميلا مزروعا على الجانبين باشجار السنط والجميز لقد وصف هذا الطريق الرحالة (جيرار دى نرفال)بأنه(اجمل شارع في العالم) كما اطلقوا عليه اسم شانزليزية القاهرة وملتقى نخبة المجتمع من الاهالي والاوربيين المقيمين في القاهرة.
وقام المهندس البريطاني (جالواى)بادخال الانارة بالغاز في المنطقة التى افتتحت عام 1829م وبالرغم من هجر هذا القصر بعد وفاة الباشا الا ان التعمير استمر ففي عام 1909م تم بناء صفين من المنازل للتأجير على طول الطريق القديم الذي اصبح يمر فيه خط الترام.وتم ايضا تشييد قصور اخرى لاعضاء الاسرة المالكة ابتلعتها المدينة التى كانت في طريقها نحو التوسع منذ نهاية القرن الماضي مشل قصر الدوبارة وقصر الروضة وقصر العيني.
وتمخضت مشروعات محمد علي الصناعية عن آثار هامة بالنسبة لنمو بولاق .كان الفرنسيون قد الحقوا أضرارا ببولاق على اثر ثورة عام 1800م لكن في عام 1814م شهدت هذه المدينة نشاطا كبيرا بفضل قيام الباشا بانشاء ترسانة بحرية واحواض للسفن.
وفي خلال الاعوام اللاحقة اقام محمد علي بعض الصناعات ببولاق منها مصانع نسيج ومطبعه ومسبك للمعادن.وكذلك العديد من المدارس الكبرى.
واصبح طابع مدينة بولاق مركز صناعي وتجاري على وظيفتها كضاحية للنزهة على ضفاف النيل.
فقد نمت مدينة بولاق باعتبارها مركزا للانشطة الصناعية ولاقامة العمال الفقراء وهكذا كان مستقبل القاهرة القريب يتحدد خارج نطاق مدينة القاهرة التى اصيبت بالركود.
من محمد علي الى اسماعيل(1848-1863م):
بينما اتسم عهد محمد علي بجنون التغيير لم تشهد عهود خلفائة عباس الاول (1848-1854م)وسعيد(1854-1863م)انجازات كبيرة .ومع ذلك كان لهذين العاهلين بعض الثقل في تاريخ المدينة .في الواقع لقد وضع عباس باشا اسس حي العباسية المقبل حين قررتشييد ثكنات للجيش على حافة الصحراء على الطريق المؤدي الى قريتي المطرية وهليوبيلس وقام بتشجيع تعمير هذه المنطقة عن طريق منح الاراضي وتشييد مستشفى وقصر ومدرسة.
وفي خلال عصر عباس الاول تم في عام 1851م توقيع عقد مع الانجليز لانشاء خط سكك حديدية بين الاسكندرية والقاهرة ولانشاء خط اخر بين القاهرة والسويس.